الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} جملة معطوفة على جملة: {نساؤكم حرث لكم} [البقرة: 223] عطف تشريع على تشريع فالمناسبة بين الجملتين تعلق مضمونيهما بأحكام معاشرة الأزواج مع كون مضمون الجملة الأولى منعًا من قربان الأزواج في حالة الحيض، وكون مضمون هذه الجملة تمهيدًا لجملة: {للذين يؤلون من نسائهم} [البقرة: 226]، فوقع هذا التمهيد موقع الاعتراض بين جملة: {نساؤكم حرث لكم}، وجملة: {للذين يؤلون من نسائهم} وسلك فيه طريق العطف لأنه نهي عطف على نهي في قوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222].وقال التفتازاني: الأظهر أنه معطوف على مقدر أي امتثلوا ما أمرت به ولا تجعلوا الله عرضة. اهـ.وفيه تكلف وخلو عن إبداء المناسبة، وجوز التفتازاني أن يكون معطوفًا على الأوامر السابقة وهي {وقدموا} [البقرة: 223] {واتقوا} [البقرة: 223] {واعلموا أنكم ملاقوه} [البقرة: 223] اه- أي فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه بين لهم شيئًا من التقوى دقيق المسلك شديد الخفاء وهو التقوى باحترام الاسم المعظم؛ فإن التقوى من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه، لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمدًا، فجئ بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رخص فيه من الحنث، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين، وبعد هذا التوجيه كله فهو يمنع منه أن مجيء قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} [البقرة: 223] مجيء التذييل للأحكام السابقة مانع من اعتبار أن يعطف عليه حكم معتد به، لأنه يطول به التذييل وشأن التذييل الإيجاز.وقال عبد الحكيم: معطوف على جملة: {قل} [البقرة: 222] بتقدير قل أي: وقل لا تجعلوا الله عرضة أو على قوله: {وقدموا} [البقرة: 223] إن جعل قوله: {وقدموا} من جملة مقول: {قل}. اهـ..قال القرطبي: قال العلماء: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعلّلا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا؛ قال معناه ابن عباس والنخعيّ ومجاهد والربيع وغيرهم. قال سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف ألا يَبرّ ولا يصِلَ ولا يُصلِح بين الناس؛ فيقال له: بَرّ؛ فيقول: قد حلفت. وقال بعض المتأولين: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البِر والتقوى والإصلاح؛ فلا يحتاج إلى تقدير لا بعد أن. وقيل: المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب؛ ولهذا قال تعالى: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]. وذمّ من كثّر اليمين فقال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] والعرب تمتدِح بقلة الأيْمان؛ حتى قال قائلهم:وعلى هذا {أن تبروا} معناه: أقِلّوا الأيمان لما فيه من البرّ والتقوى؛ فإن الإكثار يكون معه الحِنثُ وقلة رَعْى لحق الله تعالى: وهذا تأويل حسن. مالك بن أنس: بلغني أنه الحلِف بالله في كل شيء. وقيل: المعنى لا تجعلوا اليمين مبتذَلَة في كل حق وباطل. وقال الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير اعتل بالله فقال: عليّ يمين؛ وهو لم يحلف. القتبيّ: المعنى إذا حلفتم على ألا تصِلوا أرحامكم ولا تتصدّقوا ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البِر فكفروا اليمين.قلت: وهذا حسن لما بيناه، وهو الذي يدل عليه سبب النزول. اهـ. .قال الفخر: المفسرون أكثروا من الكلام في هذه الآية، وأجود ما ذكروه وجهان الأول: وهو الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو الأحسن أن قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} نهى عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به، لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل: قد جعلتني عرضة للومك، وقال الشاعر:وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] وقال تعالى: {واحفظوا أيمانكم} [المائدة: 89] والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف، كما قال كثير: والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين، وأيضًا كلما كان الإنسان أكثر تعظيمًا لله تعالى كان أكمل في العبودية ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية. اهـ. .سبب النزول: قال ابن الجوزي:في سبب نزولها أربعة أقوال:أحدها: أنها نزلت في عبد الله بن رواحة، كان بينه وبين ختنه شيء، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه، وجعل يقول: قد حلفت بالله، فلا يحل لي، إلا أن تبرّ يميني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.والثاني: أن الرجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله الربيع بن أنس.والثالث: أنها نزلت في أبي بكر حين حلف، لا ينفق على مسطح، قاله ابن جريج.والرابع: نزلت في أبي بكر، حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم، قاله المقاتلان: ابن حيان، وابن سليمان. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال ابن عاشور: وتعليق الجعل بالذات هنا هو على معنى التعليق بالاسم، فالتقدير: ولا تجعلوا اسم الله، وحذف لكثرة الاستعمال في مثله عند قيام القرينة لظهور عدم صحة تعلق الفعل بالمسمى كقول النابغة:أي وليس بعد اسم الله للمرء مذهب للحلف. اهـ. .قال الفخر: وأما قوله تعالى بعد ذلك: {أَن تَبَرُّواْ} فهو علة لهذا النهي، فقوله: {أَن تَبَرُّواْ} أي إرادة أن تبروا، والمعنى: إنما نهيتكم عن هذا لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فتكونون يا معشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين.فإن قيل: وكيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس؟.قلنا: لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا وخسائس مطالب الحفل، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر وأما معنى التقوى فظاهر أنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله، وأما الإصلاح بين الناس فمتى اعتقدوا في صدق لهجته، وبعده عن الأغراض الفاسدة فيقبلون قوله فيحصل الصلح بتوسطه.التأويل الثاني: قالوا: العرضة عبارة عن المانع، والدليل على صحة هذه اللغة أنه يقال: أردت أفعل كذا فعرض لي أمر كذا، واعترض أي تحامى ذلك فمنعني منه، واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعًا للناس من السلوك والمرور ويقال: اعترض فلان على كلام فلان، وجعل كلامه معارضًا لكلام آخر، أي ذكر ما يمنعه من تثبيت كلامه، إذا عرفت أصل الاستقاق فالعرضة فعلة بمعنى المفعول، كالقبضة، والغرفة، فيكون اسمًا لما يجعل معرضًا دون الشيء، ومانعًا منه، فثبت أن العرضة عبارة عن المانع، وأما اللام في قوله: {لأيمانكم} فهو للتعليل.إذا عرفت هذا فنقول: تقدير الآية: ولا تجعلوا ذكر الله مانعًا بسبب أيمانكم من أن تبروا أو في أن تبروا، فأسقط حرف الجر لعدم الحاجة إليه بسبب ظهوره، قالوا: وسبب نزول الآية أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات من صلة الرحم، أو إصلاح ذات البين، أو إحسان إلى أحد أدعيائه ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل: لا تجعلوا ذكر الله مانعًا بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى هذا أجود ما ذكره المفسرون. اهـ..قال البقاعي: ولما أرشد السياق والعطف على غير مذكور إلى أن التقدير: فالله جليل عظيم عطف عليه قوله: {والله} أي بما له من العز والعظمة {سميع} لجميع ما يكون من ذلك وغيره {عليم} بما أسر منه وما أعلن، فاحذروه في جميع ما يأمركم به وينهاكم عنه، ويجوز أن يكون الجملة حالًا من واو {تجعلوا} فلا يكون هناك مقدر ويكون الإظهار موضع الإضمار لتعظيم المقام. اهـ..قال الفخر: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: إن حلفتم يسمع، وإن تركتم الحلف تعظيمًا لله وإجلالًا له من أن يستشهد باسمه الكريم في الأغراض العاجلة فهو عليم عالم بما في قلوبكم ونيتكم. اهـ..قال أبو حيان: {والله سميع عليم} ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق بهما، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب، فهو من المعلومات، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة والمعلول، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم، كما قدم الحلف على الإرادة. اهـ..قال ابن عاشور: وقوله: {والله سميع عليم} تذييل، والمراد منه العلم بالأقوال والنيات، والمقصود لازمه، وهو الوعد على الامتثال، على جميع التقادير، والعذر في الحنث على التقدير الأول، والتحذير من الحلف على التقدير الثاني.وقد دلت الآية على معنى عظيم وهو أن تعظيم الله لا ينبغي أن يجعل وسيلة لتعطيل ما يحبه الله من الخير، فإن المحافظة على البر في اليمين ترجع إلى تعظيم اسم الله تعالى، وتصديق الشهادة به على الفعل المحلوف عليه، وهذا وإن كان مقصدًا جليلًا يُشكر عليه الحالف الطالب للبر؛ لكن التوسل به لقطع الخيرات مما لا يرضَى به الله تعالى، فقد تعارض أمران مرضيان لله تعالى إذا حصل أحدهما لم يحصل الآخر.والله يأمرنا أن نقدم أحد الأمرين المرضيين له، وهو ما فيه تعظيمه بطلب إرضائه، مع نفع خلقه بالبر والتقوى والإصلاح، دون الأمر الذي فيه إرضاؤه بتعظيم اسمه فقط، إذ قد علم الله تعالى أن تعظيم اسمه قد حصل عند تحرج الحالف من الحنث، فبِر اليمينِ أدبٌ مع اسم الله تعالى، والإتيانُ بالأعمال الصالحة مرضاة لله؛ فأمَرَ الله بتقديم مرضاته على الأدب مع اسمه، كما قيل: الامتثالُ مقدَّم على الأدب.وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفّرت عن يميني وفعلتُ الذي هو خير» ولأجل ذلك لما أقسم أيوب أن يضرب امرأته مائة جلدة، أمره الله أن يأخذ ضغثًا من مائة عصا فيضربها به، وقد علم الله أن هذا غيرُ مقصد أيوب؛ ولكن لما لم يرض الله من أيوب أن يضرب امرأته نهاه عن ذلك، وأمره بالتحلل محافظة على حرص أيوب على البر في يمينه، وكراهته أن يتخلف منه معتاده في تعظيم اسم ربه، فهذا وجه من التحلة، أفتى الله به نبيه.ولعل الكفّارة لم تكن مشروعة فهي من يسر الإسلام وسماحته، فقد كفانا الله ذلك إذ شرع لنا تحلّة اليمين بالكفّارة؛ ولذلك صار لا يجزئ في الإسلام أن يفعل الحالف مثل ما فعل أيوب. اهـ.
|